عندما عَلِمتُ بإصابة والِدتي بمرض سَرطان الرِئة اللعين انهرتُ تمامًا بعيدًا عن عينيها لَئِلا أُتعِبها بِمنظري ، لكنّي نَسيت بأنّ طمأنينتي تسكنُ عينيها الجَميلتين ، عِندما عَلِمَتْ بأنّي عَلِمتُ ابتسمتْ و قالت : " أمر الله يا ماما و كله صلاح و بعدين أني قويّة لا تنسين " ...
عِندها فقط تيقّنت بأنهُ مِسكين جدًّا عندما ظنّ بأنهُ قادرًا على هَزيمة جمال والِدتي، لم يهزمها يومًا و لم ننهزم لأنها كانت صامِدة، مرَّ عامٌ قضيناه بينَ أزقّة المُستشفى لم يَكُن سهلًا جدًّا.. الآن أَدرك بأنهُ كانَ الأسهل بينَ أعوامي التّالية، أربعُ جرعاتٍ من ذلكَ السائل الحارق ..
كنتُ أبكي بحرقة أمام غرفة المرضى عندما يَحين موعد جلسة الكيماوي لِعلمي بِحرارته على جسدها ، حتى ذلك اليوم الذي قالَ فيه الدكتور لي : زينب والدتك قويّة جدًّا ، قويّة لدرجة أن ذلك اللعين قد أوشكَ على أن يُعلن هزِيمته .. زينب لا كِيمو بعدَ اليوم ! سنُكمل مشاورنا بالعقاقير ...
استبشرتُ خيرًا ، خيرًا كبيرًا ... حتّى عادَ الدكتور بخبرٍ لعلّهُ اسوأَ من خبر إصابة نورَ عينيّ بذاك اللَعين ، استطاعَ اللعين أن يُغزو جسدها مرّةً أُخرى و لكنه غزاها كَحِصان طِروادة هذهِ المرّة ، أكبرُ و أشدُّ فَتكًا !
تمسّكتُ بالصبر الذي استمدهُ من عينيها، آمنتُ بأنهُ مهزوم كسابقته وكلّما رأيتها تضحك أشعرُ بأن العالم من حولي فراغ ووَحدها الحضور، كنتُ أعلم بأنّي أُحبُّ والدتي حبًّا سرمدي لا حدودَ له.. لكنّي رأيتُ هذا الحُب والتمستهُ عندها رأيتُ نفسي أضحك لا إراديًّا لأنها تبتسم مجرد ابتسامة ...
الخامِسة .. كانت قاسيةً جِدًّا ، تساقطَ شعرها الجميل و تلتهُ ليالٍ من الأنينِ و الدموع و الأهل و الأصدقاء مُحيطين بسريرها بدموع صامِتة و وحدي التي قستْ عليَّ عيناي فجفّتا ..
سقَطتْ تلكَ القويّة لِترقد ساكنةً و تلك البطاقة الخضراء ثُبِّتتْ أعلى سريرها " عناية فائِقة / خطر الموت "!
سقَطتْ تلكَ القويّة لِترقد ساكنةً و تلك البطاقة الخضراء ثُبِّتتْ أعلى سريرها " عناية فائِقة / خطر الموت "!
و لأنها اغمضتْ عينيها غابَ صبري بغِيابِ نورهما ، صرختُ .. بكيتُ .. انتحبتُ بصوتٍ جمّع الناس حوالنا ، و خيلاني و أعمامي يحاولون جاهِدًا إمساكي دونَ جدوى ، احتضنني عمّي بقوّة شعرتُ بأنها ستُكسّرُ أضلاعي .. سَكَنَ صوتي و اصطحبني خالي لاستراحة الجناح المشؤوم يرافقنا عددًا من الأهل ..
قال لي خالي بأنّها طِوال اليوم لم تستجبْ لأحد ولم تفتح عينيها، لكنّها عندما سمعت صراخي فتحتها بقوّة ورفعت يديها، نظرتُ إليه ثم سكنتُ قليلًا.. طلبتُ نظارتي التي كنت قد أضعتها أثناء مُقاومتي للأيادي المُمسكة بي، مضيت إليها قبّلت رأسها وبقيت انظرُ إليها آملةً أن تفتح عينيها مجدّدًا
في اليوم التالي فتحتْ عينيها وابتسمت، تلكَ الإبتسامة التي شعرتُ بأنّي أملكُ الدنيا بين كفّيّ لأنني رأيتها ، تحرّكتْ قليلًا كادتْ أن تتكلم لكّن الأنبوب الذي يخترق حنجرتها منعها من ذلك فربّتتُ على كتيفها لئلّا تُبذلُ جهدًا، قلتُ لها : حرّانة ؟، اخرجت حرفين بصعوبة :شوي، كانت قويّة.
في تلكَ الليلة التي تركتها فيها فَرِحةً بارتفاع مؤشراتها على الجِهاز ذو الصوت المزعج الذي رأيتهُ في كوابيسي كثيرًا و لم أَعلم بأنّي سأسمعُ صوتهُ للمرّة الأَخيرة بل أنّي سأرى ابتسامتها للمرّة الأَخيرة ، رأيتها في تلك اللّيلة قويّة جدًا تمسّكتْ بيدي كما لم تتمسّك بها من قبل ...
ظلّيتُ قرابة الأربع ساعات مُمسكةً بيدها و هي غير قادرة على الكلام إنّما تبتسم بين الحِين والآخر لتُطَمئنَ قلبي، سألتها: ماما اقرأ لش قُرآن ؟ فضحكتْ لغرابة ذلك و رغم الصعوبة سمعتُ ضحكتها بصوتٍ يكاد لا يصِلني، لم تكتفي أُذُناي فحاولتُ إضحاكها مُجددًا لكنها كانت آخر ضحكةٍ اسمعُها ..
استيقظتُ في اليوم التالي صباحًا بحماس شديد ، لكنّ جدران المنزل كانَ لها رأيٌّ آخر في الأمر .. كانتْ ظلال الموت تحوم حولنا مُنذِرةً بفاجِعةٍ قادِمة ، أمّا تلك الصرخة التي عَبرتْ نحو شفتاي لتستقر مدوّيةً تُخبر الجميع بأنّ أهلُ هذا المنزلِ أصبحوا مفجوعين فلم أنسى صداها يومًا ..
منذُ تلك الصرخة و الحزنُ بدأَ يرسمُ أولى لوحاته على وجهي ، منذُ تلك الصرخة و الفقدُ بطل حكايّةٍ لوّعَ فيها الفراق كَبِدي، تلكَ الصرخة قد ملأتْ قلبي قيحا ، و ذاكَ الفراق قد ملأني حُزنًا و لولا أمرُ الله و عِنايته و ذكراها الحَبيبة لما تركَ لي الحزنُ حياةً لأحياها ..
أحبّايّ لو غيرَ الحِمامِ أصابكم
عَتِبتُ، و لكن ما على الموتِ معتبُ !
عَتِبتُ، و لكن ما على الموتِ معتبُ !